كتاب: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إحكام الأحكام شرح عمدة الأحكام



وربما سلك من رجح الصبح طريق المعنى وهو أن تخصيص الصلاة الوسطى بالأمر بالمحافظة لأجل المشقة في ذلك وأشق الصلوات: صلاة الصبح لأنها تأتي في حال النوم والغفلة وقد قيل: إن ألذ النوم إغفاءة الفجر فناسب أن تكون هي المحثوث على المحافظة عليها وهذا قد يعارض في صلاة العصر بمشقة أخرى وهي أنها وقت اشتغال الناس بالمعاش والتكسب ولو لم يعارض بذلك لكان المعنى الذي ذكره في صلاة الصبح ساقط الاعتبار مع النص على أنها العصر وللفضائل والمصالح مراتب لا يحيط بها البشر فالواجب اتباع النص فيها.
وربما سلك المخالف لهذا المذهب مسلك النظر في كونها وسطى من حيث العدد وهذا عليه أمران أحدهما: أن الوسطى لا يتعين أن تكون من حيث العدد فيجوز أن تكون من حيث الفضل كما يشير إليه قوله تعالى: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً} [البقرة: 143] أي عدولا الثاني: أنه إذا كان من حيث العدد فلابد من أن يعين ابتداء في العدد يقع بسببه معرفة الوسط وهذا يقع فيه التعارض فمن يذهب إلى أنها الصبح يقول: سبقتها المغرب والعشاء ليلا وبعدها الظهر والعصر نهارا فكانت هي الوسطى ومن يقول هي المغرب يقول: سبق الظهر والعصر وتأخر العشاء والصبح فكانت المغرب هي وسطى ويترجح هذا بأن صلاة الظهر قد سميت الأولى.
وعلى كل حال: فأقوى ما ذكرناه: حديث العطف الذي صدرنا به ومع ذلك: فدلالته قاصرة عن هذا النص الذي استدل به على أنها العصر والاعتقاد المستفاد من هذا الحديث: أقوى من الاعتقاد المستفاد من حديث العطف والواجب على الناظر المحقق: أن يزن الظنون ويعمل بالأرجح منها.
البحث الثاني: قوله: «ثم صلاها بين المغرب والعشاء» يحتمل أمرين.
أحدهما: أن يكون التقدير: فصلاها بين وقت المغرب ووقت العشاء.
والثاني: أن يكون التقدير: فصلاها بين صلاة المغرب وصلاة العشاء وعلى هذا التقدير: يكون الحديث دالا على أن ترتيب الفوائت غير واجب لأنه يكون صلاها- أعني العصر الفائتة- بعد صلاة المغرب الحاضرة وذلك لا يراه من يوجب الترتيب إلا أن هذا الاستدلال يتوقف على دليل يرجح هذا التقدير- أعني قولنا: بين صلاة المغرب وصلاة العشاء- على التقدير الأول- أعني قولنا: بين وقت المغرب ووقت العشاء- فإن وجد دليل على هذا الترجيح تم الاستدلال وإلاوقع الإحمال.
وفي هذا الترجيح- الذي أشرنا إليه- مجال للنظر على حسب قواعد علم العربية والبيان وقد ورد التصريح بما يقتضي الترجيح للتقدير الأول وهو: «أن النبي صلى الله عليه وسلم بدأ بالعصر وصلى بعدها المغرب» وهو حديث صحيح فلا يلتفت إلى غيره من الاحتمالات والترجيحات والله أعلم.
وحديث ابن مسعود الآتي عقيب هذا الحديث: يدل على أن الصلاة الوسطى: صلاة العصر أيضا كما في الحديث.
وقوله فيه: (حبس المشركون رسول الله صلى الله عليه وسلم عن صلاة العصر حتى احمرت الشمس أو اصفرت) وقت الاصفرار: وقت الكراهة ويكون وقت الاختيار خارجا ولا تؤخر الصلاة عن وقت الاختيار فقد ورد أن ذلك كان قبل نزول قوله تعالى: {فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجَالاً أَوْ رُكْبَاناً} [البقرة: 239] والمراد بذلك: أنه لو كانت الآية نزلت لأقيمت الصلاة في حالة الخوف على ما اقتضته الآية.
وقوله: (حتى اصفرت الشمس) قد يتوهم منه مخالفة لما في الحديث الأول من صلاتها بين المغرب والعشاء وليس كذلك بل الحبس انتهى إلى هذا الوقت ولم تقع الصلاة إلا بعد المغرب كما في الحديث الأول وقد يكون ذلك الاشتغال بأسباب الصلاة أو غيرها فما فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم مقتض لجواز التأخير إلى ما بعد الغروب.
وفي الحديث: دليل على جواز الدعاء على الكفار بمثل هذا ولعل قائلا يقول: فيه متمسك لعدم رواية الحديث بالمعنى فإن ابن مسعود تردد بين قوله: «ملأ الله» أو «حشا الله» ولم يقتصر على أحد اللفظين مع تقاربهما في المعنى.
وجوابه: أن بينهما تفاوتا فإن قوله: «حشا الله» يقتضي من التراكم وكثرة أجزاء المحشو ما لا يقتضيه «ملأ».
وقد قيل: إن شرط الرواية بالمعنى: أن يكون اللفظان مترادفين لا ينقص أحدهما عن.
الآخر على أنه وإن جوزنا بالمعنى فلا شك أن رواية اللفظ أولى فقد يكون ابن مسعود تحرى لطلب الأفضل.
7- عن عبد الله بن عباس رضي الله عنهما قال: أعتم النبي صلى الله عليه وسلم بالعشاء فخرج عمر فقال: الصلاة يا رسول الله رقد النساء والصبيان فخرج ورأسه يقطر يقول: «لولا أن أشق على أمتي- أو على الناس- لأمرتهم بهذه الصلاة هذه الساعة».
عبد الله بن عباس بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف أبو العباس ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم أحد أكابر الصحابة وعلمائهم كان يقال له البحر لسعة علمه مات بالطائف سنة ثمان وستين في أيام ابن الزبير وولد قبل الهجرة بثلاث سنين في قول الواقدي.
وفي الحديث مباحث:
الأول: يقال عتم الليل يعتم- بكسر التاء- إذا أظلم والعتمة: الظلمة وقيل: إنها اسم لثلث الليل الأول بعد غروب الشفق نقل ذلك عن الخليل وقوله: أعتم أي دخل في العتمة كما يقال: أصبح وأمسى وأظهر قال الله تعالى: {حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ} [الروم: 17]- إلى قوله-: {وَحِينَ تُظْهِرُونَ} [الروم: 18].
الثاني: اختلف الناس في كراهية تسمية العشاء بالعتمة فمنهم من أجازه واستدل بهذا الحديث وفي الاستدلال به نظر فإن قوله أعتم أي دخل في وقت العتمة والمراد: صلى فيه ولا يلزم من ذلك أن يكون سمى العشاء عتمة وأصح منه: الاستدلال بقوله صلى الله عليه وسلم: «لو يعلمون ما في العتمة والصبح» ومنهم من كره ذلك قال الشافعي وأحب أن لا تسمى صلاة العشاء بالعتمة ومستنده هذا الحديث الصحيح عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم ألا وإنها العشاء ولكنهم يعتمون بالإبل» أي يؤخرون حلبها إلى أن يظلم الظلام وعتمة الليل: ظلمته كما قدمناه.
وهذا الحديث يدل على هذا المقصود من وجوه أحدها: صيغة النهي والثاني: ما في قوله تغلبنكم فإن فيه تنفيرا عن هذه التسمية فإن النفوس تأنف من الغلبة والثالث: إضافة الصلاة إليهم في قوله: «على اسم صلاتكم» فإن فيه زيادة ألا ترى أن لو قلنا: لا تغلبن على مالك: كان أشد تنفيرا من قولنا: لا تغلبن على مال أو على المال؟ لدلالة الإضافة على الاختصاص به.
ولعل الأقرب: أن تجوز هذه التسمية ويكون الأولى تركها وقد قدمنا الفرق بين كون الأولى.
ترك الشيء وبين كونه مكروها أما الجواز: فلفظ الرسول صلى الله عليه وسلم واما عدم الأولوية: فللحديث المذكور ولفظ الشافعي- وهو قوله لا أحب- أقرب إلى ما ذكرناه من قول من قال من أصحابه ويكره أن يقال لها العتمة.
أو يقول: المنهي عنه إنما هو الغلبة على الاسم وذلك بأن يستعمل دائما أو أكثريا ولا يناقضه أن يستعمل قليلا فيكون الحديث من باب استعماله قليلا أعني قوله صلى الله عليه وسلم: «ولو يعلمون ما العتمة والصبح» ويكون حديث ابن عمر محمولا على أن تسمى بذلك الاسم غالبا أو دائما.
الثالث: في الحديث دليل على أن الأولى: تأخير العشاء وقد قدمنا اختلاف العلماء فيه ووجه الاستدلال: قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن أشق على أمتي أو على الناس» الخ وفيه دليل على أن المطلوب تأخيرها لولا المشقة.
الرابع: قد حكينا أن العتمة اسم لثلث الليل بعد غيبوبة الشفق فلا ينبغي أن يحمل قوله أعتم على أول أجزاء هذا الوقت فإن أجزائه: بعد غيبوبة الشفق ولا يجوز تقديم الصلاة على ذلك الوقت وإنما ينبغي أن يحمل على آخره أو ما يقارب ذلك فيكون ذلك مخالفا للعادة وسببا لقول عمر رضي الله عنه رقد النساء والصبيان.
الخامس: قد كنا قدمنا في قوله صلى الله عليه وسلم: «لولا أن اشق على أمتي لأمرتهم بالسواك عند كل صلاة» أنه استدل بذلك على أن الأمر للوجوب فلك أن تنظر: هل يتساوى هذا اللفظ مع ذلك في الدلالة أم لا؟.
فأقول: لقائل أن يقول: لا يتساوى مطلقا فإن وجه الدليل ثم: أن كلمة لولا تدل على انتفاء الشيء لوجود غيره فيقتضي ذلك انتفاء الأمر لوجود المشقة والأمر المنفي ليس أمر الاستحباب لثبوت الاستحباب فيكون المنتفي هو أمر الوجوب فثبت أن الأمر المطلق للوجوب فإذا استعملنا هذا الدليل في هذا المكان وقلنا: إن الأمر المنفي ليس أمر الاستحباب- لثبوت الاستحباب- توجه المنع هاهنا عند من يرى أن تقديم العشاء أفضل بالدلائل الدالة على ذلك اللهم إلا أن يضم إلى الاستدلال: الدلائل الخارجة الدالة على استحباب التأخير فيترجح على الدلائل المقتضية للتقديم ويجعل ذلك مقدمة ويكون المجموع دليلا على أن الأمر للوجوب فحينئذ يتم ذلك بهذه الضميمة.
السادس: في الحديث دليل على تنبيه الأكابر: إما لاحتمال غفلة أو لاستثارة فائدة منهم في التنبيه لقول عمر رقد النساء والصبيان.
السابع: يحتمل أن يكون قوله رقد النساء والصبيان راجعا إلى من حضر المسجد منهم.
لقلة احتمالهم المشقة في السهر فيرجع ذلك إلى أنهم كانوا يحضرون المسجد لصلاة الجماعة ويحتمل أن يكون راجعا إلى من خلفه المصلون في البيوت من النساء والصبيان ويكون قوله رقد النساء إشفاقا عليهم من طول الانتظار.
8- عن عائشة رضي الله عنها: أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا أقيمت الصلاة وحضر العشاء فابدأوا بالعشاء» وعن ابن عمر نحوه.
لا ينبغي حمل الألف واللام في الصلاة على الاستغراق ولا على تعريف الماهية بل ينبغي أن تحمل على المغرب لقوله: «فابدأوا بالعشاء» وذلك يخرج صلاة النهار ويبين أنها غير مقصودة ويبقى التردد بين المغرب والعشاء فيترجح حمله على المغرب لما ورد في بعض الروايات: «إذا وضع العشاء وأحدكم صائم فابدأوا به قبل أن تصلوا» وهو صحيح وكذلك أيضا صح: «فابدأوا به قبل أن تصلوا صلاة المغرب» والحديث يفسر بعضه بعضا.
والظاهرية أخذوا بظاهر الحديث في تقديم الطعام على الصلاة وزادوا- فيما نقل عنهم- فقالوا: إن صلى فصلاته باطلة.
وأما أهل القياس والنظر فإنهم نظروا إلى المعنى وفهموا: أن العلة التشويش لأجل التشوف إلى الطعام وقد أوضحته تلك الرواية التي ذكرناها وهي قوله: «وأحدكم صائم» فتتبعوا هذا المعنى فحيث حصل التشوف المؤدي إلى عدم الحضور في الصلاة قدموا الطعام واقتصروا أيضا على مقدار ما يكسر سورة الجوع ونقل عن مالك: يبدأ بالصلاة إلا أن يكون طعاما خفيفا.
واستدل بالحديث على أن وقت المغرب موسع فإن أريد به مطلق التوسعة فصحيح لكن ليس بمحل الخلاف المشهور وإن أريدا التوسعة إلى مغيب الشفق ففي الاستدلال نظر لأن بعض من ضيق وقت المغرب جعله مقدرا بزمان يدخل في مقدار ما يتناول لقيمات يكسر بها سورة الجوع فعلى هذا: لا يلزم أن لا يكون وقت المغرب موسعا إلى غروب الشفق.
على أن الصحيح الذي نذهب إليه: أن وقتها موسع إلى غروب الشفق وإنما الكلام في وجه هذا الاستدلال من هذا الحديث.
وقد استدل به أيضا على أن صلاة الجماعة ليست فرضا على الأعيان في كل حال وهذا صحيح إن أريد به: أن حضور الطعام- مع التشوف إليه- عذر ترك الجماعة وإن أريد به الاستدلال عل أنها ليست بفرض من غير عذر لم يصح ذلك.
وفي الحديث: دليل على فضيلة تقديم حضور القلب في الصلاة على فضيلة أو الوقت فإنهما لما تزاحما قدم صاحب الشرع الوسيلة إلى حضور القلب على أداء الصلاة في أول الوقت والمتشوفون إلى المعنى أيضا قد لايقصرون الحكم على حضور الطعام بل يقولون به عند وجود المعنى وهو التشوف إلى الطعام.
والتحقيق في هذا: أن الطعام إذا لم يحضر فإما أن يكون متيسر الحضور عن قريب حتى يكون كالحاضر أولا؟ فإن كان الأول: فلا يبعد أن يكون حكمه حكم الحاضر وإن كان الثاني وهو ما يتراخى حضوره: فلا ينبغي أن يلحق بالحاضر فإن حضور الطعام يوجب زيادة تشوف وتطلع إليه وهذه الزيادة يمكن أن يكون الشارع اعتبرها في تقديم الطعام على الصلاة فلا ينبغي أن يلحق به ما لا يساويها للقاعدة الأصولية إن محل النص إذا اشتمل على وصف يمكن أن يكون معتبرا لم يلغ.
9- ولمسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «لا صلاة بحضرة طعام ولا وهو يدافعه الأخبثان».